سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

خرج منها ليكتب

يبحث الكتّاب عن تجربة يعيشونها لكي يكتبوا عنها. يسافرون في المجاهل والأدغال ويغامرون في الجبهات والحروب. لكن ماذا عن المحنة التي تأتي من دون دعوة؟ هل هي سوء طالع في الحياة أم حُسن طالع في الأدب؟ كان كورت فونغوت، أحد أشهر كتّاب أميركا. عاش لاذعا وساخرا يتطلَّع إلى الأشياء في عبثيَّة دائمة، محاذرا الثقة في البشر، متوقعا على الدوام أن يُظهروا الضعف الشديد أو القساوة الفظيعة. غالبا الرجل نفسه. الدولة نفسها. الشعب نفسه.
بدأ فونغوت حياته في تجربة لا مثيل لها. جندي أميركي وقع في أسر الألمان. والألمان نقلوه عامل تنظيفات في مدينة درسدن. كانوا يومها منتصرين. وبدل أن يُحسنوا معاملته لأنه ألماني الأصل، عاقبوه على خيانته. وبعد وقت بدأت الهزائم تحل بهم.
قرر الحلفاء المنتصرون أن ينتقموا أشد انتقام لضحاياهم ووضع حد للحرب. اختاروا هدفين: قصف هيروشيما بالقنبلة الذرية لتركيع اليابان، وقصف درسدن بكل أنواع القنابل والقذائف والمتفجرات. أرسلوا أسراب الطائرات المحمَّلة، الواحد في عقب الآخر، مع تعليمات واضحة للطيارين: أفرغوا كل ما تحملون، في أي مكان.
كانت تلك «أفظع مجزرة في تاريخ أوروبا». الجندي الأميركي فونغوت كان في الخنادق مع آسريه الألمان، آباء والده وأمه. عندما خرجوا من الخنادق كانت درسدن قد صارت رمادا وركاما و170 ألف قتيل وآلاف المصابين. كُلِّف الأسير الأميركي مهمّة جديدة. لن يجمع القمامة بعد الآن، لكنه سوف يجمع الجثث لإحراقها لكي لا تكمل الأوبئة على ما بقي من المدينة. وما بقي كان قليلا.
كان فونغوت طالبا جامعيا قبل أن يُجنَّد ويُرسل إلى الحرب. وكان يفشل دائما في الرياضيات ويُريد أن يصبح كاتبا ذات يوم. هل يعيش ليكتب تجربته الأولى؟ هل تعود مئات الطائرات الحليفة غدا وتدك كل ما ومن بقي، بمن فيهم أحد جنودهم وأسير عدوهم؟
«كورت فونغوت: المقابلة الأخيرة» مجموعة أحاديث دُمجت في مقابلة واحدة وكتاب واحد مع هذا الشاهد العجيب لأحد أسوأ فصول الحرب الكونية. وضع فونغوت كتابه الأول تحت عنوان «المسلخ رقم 5». فعندما وصل أسيرا إلى درسدن بعد التنقل في بضعة معسكرات أخرى، أُنزل في مسلخ أبقار جنوب المدينة. وعلى الرغم من كونه أسيرا فقد أحبها، «كانت مليئة بالعمارات الجميلة والفنون مثل باريس. وكانت أول مكان جميل تقع عليه عيناي منذ بداية الحرب». ثم لا شيء. ركام وغبار الموتى وروائح فحم الجثث التي لن تفارقه مدى العمر المليء بالميلانكوليا.
كم استغرق الألمان لإعادة بناء درسدن؟ 16 شهرا؟ 16 عاما؟ لا. انتقموا على طريقتهم. أعادوا بناءها في 16 أسبوعا. بمساعدة مدمِّريها.