وفيق السامرائي
ضابط متقاعد وخبير استراتيجيّ عراقيّ
TT

اقتحام بغداد

مجنونون أو جهلاء أولئك الذين كانوا يظنون أن ما حدث في الموصل وتكريت يمكنهم تكراره في سامراء وبغداد، فقد قيل لهم منذ البداية علنا إن هاتين المدينتين عصيتان عليهم، لأسباب تدخل في صلب تقدير مواقف العسكر والاستخبارات والأمن. وتغيير قواعد التفكير في هذا المجال يتطلب توقع حدوث حريق كبير لن يترك شيئا في منطقة الشرق الأوسط. وأيا كان الحاكم في بغداد، وأيا كانت الظروف والمعاناة، فإن طرق المعالجة الصحيحة لم تستنفد، وحتى إذا ما استنفدت، فالحريق لا يجلب غير الدمار الشامل، وهو خيار لا يمكن مجرد التفكير فيه.
فور سقوط الموصل، بدأت مرحلة اتخاذ إجراءات دفاعية لمواجهة خطر التحرك باتجاه سامراء وبغداد. ولن أتردد في عدم إخفاء تقديمي ملاحظات علنية لتعزيز مواجهة الخطر الذي يمثله «داعش»، وكل كلام عن وجود قوات ضاربة مؤثرة من خارج هذا الإطار لا يستحق الاستماع إليه. وحاول عشرات المتصلين بيان وجهة نظر أخرى، وقيل لهم إنهم يقدمون غطاء خداعا لتسهيل «غزوة داعش»، ولا فرق بين أن يكون الغطاء مقصودا أو عفويا. وبعد مرور شهر واحد ثبت أن دور البعثيين وغيرهم من خارج إطار «داعش» كان هامشيا، ولم يتجرأ أحد منهم على رفع علم أو إظهار قيادة ضمن المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة.
أما قصة «ثوار العشائر»، فلا يمكن إنكار وجود معاناة حمل بسببها شباب السلاح، إلا أن بعض من تزعموا هذا التنظيم، تحولوا إلى «ثوار فنادق» في أربيل، وتركوا مناطق القتال، وواصلوا إصدار بيانات التهديد من إقليم كردستان بطريقة علنية مثيرة تدل على أهداف مريبة، ومن هؤلاء من كانوا مع المالكي قلبا وقالبا قبل أن ينقلبوا. ومن يجرد بياناتهم يجد أن تهديداتهم كانت فاقدة المصداقية ولا قيمة لها. ومن هؤلاء «الثوار» من انتحل رتبا عسكرية تفوق أعمارهم ولم يحملوا درجة منها، ومنهم من هو متهم بعمليات نصب واحتيال وتزوير شيكات ممن يطلق عليهم «جماعة المادة 56». وهؤلاء والدواعش قدموا غطاء لحلم إقامة دولة كردية على حساب العراق، إن مضت «على ما هي عليه من سيطرة» فستكون بداية مخططات الشرق الأوسط الجديد.
الآن في بغداد مئات الآلاف من المسلحين من القوات النظامية والمتطوعين «والميليشيات»، والذين تحدثوا عن نيتهم اختراق بغداد إنما يلحقون ضررا فادحا بسنة عرب بغداد، الذين أصبحوا في وضع لا يحسدون عليه ولو نفسيا، وهم مع بغداد وليسوا مع الدواعش ومن يحاول عبثا ركوب موجتهم، فالدواعش لم يسمحوا لأحد بركوب موجاتهم. وأصبحت سامراء بحكم قدسيتها التاريخية والدينية جدارا لا يمكن اقتحامه.
مئات الجنرالات والبعثيين يعيشون خارج العراق، وحاولت كثيرا الدفاع عن حقوقهم، وقليل منهم اعتقد، خاطئا، أن ما يحدث ثورة شعب. فالثورات والمواقف تقاس بنتائجها وليس على أساس التصورات العاطفية، فتدمير بلد وتقسيمه وإشعاله بحرب أهلية قد تمتد 100 عام، وتحويل المنطقة إلى كرة نار، ليس هو الخيار الصحيح لإسقاط حكومة أو حاكم، لا سيما أن الخيارات الديمقراطية متاحة للتغيير لو صدقت نيات السياسيين وتخلوا عن مصالحهم غير المشروعة، وعن أنانية فاقت كل ما دوّن في سجلات التاريخ. وتشهد صفحات «الشرق الأوسط» كم كتبت من انتقادات للحكومة العراقية والدور الإيراني، غير أن المس بالعصب الحساس المتعلق بوحدة العراق ومستقبل الناس لا يمكن التسليم به.
لا يزال العراق يعاني نقصا كبيرا في التسلح، وبما أنه يمتلك المال، وقد شعر بمخاطر حاسمة، وبما أن أسواق السلاح مفتوحة، فإن المعادلات ستشهد متغيرات كبيرة، كما أن التدخلات الإقليمية ستشهد تطورات كالتي تطرقت إليها في مقالات سابقة. ومن مصلحة العرب والدول الإقليمية الوقوف مع العراق في مواجهة «دولة الخلافة» حماية لأمن المنطقة، وإذا كانت الرؤية لا تزال قائمة عن أن «داعش» فكرة إيرانية أسدية، فيفترض التصدي له عربيا. وإذا اعتقد البعثيون أن «داعش» ليس إلا فاتح حصون لهم، فإنهم يرتكبون جريمة لا تقل عن جريمة احتلال الكويت. والوقوف مع بغداد حاليا لا يعني الوقوف إلى جانب حاكم يمكن تغييره بطرق سياسية الآن أو مستقبلا.
المنطقة تشهد موقفا خطيرا، وتقديرات الرئيس المصري المشير السيسي تمثل فلسفة تقدير موقف الاستخبارات الاستراتيجي، فقد سلط الضوء على خطر تقسيم العراق.