هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.
TT

جاك بيرك وإسلام التقدم

يرى البعض بأن الأطروحة المركزية لجاك بيرك تقول بأن العرب في القرن العشرين يسيرون في اتجاه الانتقال من «الزمن المقدس إلى الزمن التاريخي». ماذا تعني هذه العبارة العميقة جدا من الناحية الفلسفية؟ إنها تعني بكل بساطة أنهم قد دخلوا التاريخ أو سوف يدخلونه عما قريب كما فعلت الشعوب الأوروبية من قبلهم. إنها تعني أنهم دخلوا الحداثة العلمية والسياسية والتكنولوجية أو على وشك الدخول. ولكن في ظني أن المستشرق الفرنسي الكبير قال هذه العبارة إبان صعود الليبرالية والناصرية والقومية العربية وكل الاتجاهات التقدمية والتحديثية. بمعنى آخر، فإنها تعود إلى الخمسينات أو الستينات من القرن الماضي.. بمعنى آخر، لقد قالها قبل الصعود المزمجر للموجة الأصولية الهادرة. فهذه تؤكد على الأطروحة المعاكسة، وهي أن العرب يعودون من «الزمن التاريخي إلى الزمن المقدس» على فرض أنهم خرجوا من هذا الأخير لكي يعودوا إليه، وهو شيء أشك فيه كل الشك. لا ريب في أنه حصلت نهضة القرن التاسع عشر والزمن الليبرالي العربي.. لا ريب في أن الكثير من أفكار الحداثة دخلت إلينا على مدار القرنين الماضيين.. لا ريب في أننا كنا سائرين على درب التقدم، ولكن فجأة أجهضت النهضة العربية أو توقفت. فجأة إذا بنا ننتكس إلى الوراء.. فجأة نشعر بعطش هائل لمعانقة الأصل والجذور والانقلاب على كل هذه الحداثة المستوردة من الخارج والغريبة عن أعماقنا التراثية وشخصيتنا التاريخية. في الواقع إن الزمن المقدس كان نائما إبان المرحلة الليبرالية والناصرية، كان قابعا في الزوايا الخلفية، ولم يكن ينتظر إلا فشل هذه الآيديولوجيات التحديثية لكي يعود ويحتل الساحة كليا من جديد. وهذا ما حصل بالفعل بعد نكسة 5 يونيو (حزيران) 1967.
أضيف شيئا آخر لا يتناقض مع توجه بيرك إطلاقا، وهو أن الفكر العربي، على عكس الفكر الأوروبي، لم يتجرأ يوما ما على قطع حبل السرة - إذا جاز التعبير - مع الزمن المقدس. لهذا السبب استطاعت الموجة الأصولية أن تعود بكل هذه القوة والعنفوان. وبيرك يعتبرها صاعدة من أعماق الأعماق وليست ظاهرة سطحية كما توهم بعضهم. بمعنى آخر، ما لم تدخل فلسفة الدين إلى العالم العربي وتفكك اليقينيات التراثية المتكلسة والمتحنطة فسوف تظل الأصولية هي الأفق الذي لا يمكن تجاوزه لعصرنا.. كلما هربنا منها لحقتنا أو رأيناها تنتظرنا على قارعة الطريق. كلما توهمنا أننا خرجنا منها، إذا بنا نجد أنفسنا مرميين في أحضانها.
ما التشخيص الذي يقدمه جاك بيرك لهذه المشكلة التي أصبحت بحجم العالم؟ تلزم مقالات عديدة للرد على هذا السؤال. ولكن من عجائب المصادفات أنه قبل وفاته في 27 يونيو 1995 بأسبوع واحد فقط نشر دراسة مهمة عن الموضوع في المجلة الفصلية السويسرية «الزمن الاستراتيجي» تحت عنوان «أي إسلام؟»، بمعنى: أي إسلام نريد؟ أو: عن أي إسلام نتحدث؟ لكأنه لم يشأ أن يفارقنا قبل أن يترك لنا وصيته.
ليس هدفي من هذه المقالة المتواضعة أن ألخص كل ما ورد في تلك الدراسة القيمة والعميقة، بل ولن أتعرض لها ألبتة.. ربما عدت إلى ذلك لاحقا. سوف أقول فقط بأن من يقرأ كتبه الأخيرة يلاحظ أنه كان يركز على مصطلح أساسي هو «إسلام التقدم» أو «إسلام الأنوار». وربما كان هو أول من استخدم هذا المصطلح الأخير ثم أخذه عنه مالك شبل وآخرون عديدون.. كان يدعو إليه ويجيش كل طاقاته من أجل انبثاقه وظهوره آملا في تغلبه يوما ما على الإسلام الأصولي الماضوي المكرس في برامج التعليم والفضائيات، بل وحتى الجامعات!
يعترف بيرك بكل أمانة بأن النص القرآني - ككل النصوص الدينية الكبرى - يحتمل قراءتين لا قراءة واحدة؛ القراءة الأصولية العنيفة السائدة لدى «الإخوان» والجماعات المتشددة، والقراءة العقلانية السائدة لدى المعتزلة والفلاسفة والنخب المثقفة حاليا. انظر «إسلام الحرية» لمحمد الشرفي. ولكن المشكلة هي أن القراءة الأولى هي التي سادت إلى درجة أنها غطت على القراءة الثانية، بل وطمستها كليا. يحصل ذلك إلى درجة أن هناك من يتوهم بأن القرآن هو مجرد كتاب عنف ليس إلا! وهذا ظلم ما بعده ظلم. لم يعد أحد يتصور أن القراءة المضيئة الثانية موجودة، بل ولا حتى ممكنة! فكيف يمكن أن يكون المسلمون عنيفين بشكل مجاني أو قساة القلوب أو يريدون بالآخرين شرا؟ مستحيل. كيف تشكلت عنهم هذه الصورة السوداء المرعبة وهم من أكرم الناس خلقا وأكثرهم شهامة؟
بما أن جاك بيرك أمضى سنواته الأخيرة في ترجمة معاني القرآن الكريم وشرحه والتعليق عليه، فإنه يعرف عمّا يتحدث بالضبط. لم يشأ أن يكذب علينا وإنما واجهنا بالحقيقة المرة على طريقة «صديقك من صدقك لا من صدّقك». وهذه نقطة تحسب لواحد من أهم المستشرقين الفرنسيين على مر العصور، بل ولم يكن مستشرقا بالمعنى المتعارف عليه، لم يكن يتحدث عن الإسلام من الخارج، لسبب بسيط هو أنه ولد فيه وترعرع بين أحضانه.. إنه من مواليد الجزائر عام 1910 ولم يغادرها للدراسة في فرنسا إلا بعد أن تجاوز العشرين. وبالتالي، فكل طفولته وشبابه الأول عاشه بين العرب والمسلمين، ثم وقع في حب المغرب كما يحصل لكثيرين غيره وعاش فيه طويلا، بل ودرس الدين والفقه الإسلامي على يد مشايخ جامع «القرويين» الشهير. وبالتالي، فالمسألة كانت تعنيه في الصميم: أقصد مسألة تقدم العرب أو انتقالهم من الزمن المقدس إلى الزمن التاريخي. ولا يتصورن أحد أن ذلك يعني التخلي عن الإسلام والقداسة! أبدا لا. وإنما يعني الانتقال من الفهم المتشدد للفقه إلى الفهم المتجدد، من الفهم الانغلاقي الظلامي إلى الفهم المضيء. كان يقول حرفيا: «ينبغي أن نشجع على انتشار إسلام الأنوار في كل الأجيال الجديدة الشابة لأنه وحده المتلائم مع الحداثة والديمقراطية والنزعة الإنسانية». هذا كل ما كان يريده ولا شيء آخر. هنا تكمن وصيته. بمعنى آخر وبه أختتم: كان جاك بيرك يدعو إلى توسيع مجال الفقه الغني جدا لكي يتحول إلى فقه التقدم، إلى فقه الحرية، إلى فقه التفكير لا التكفير.. فهل هذا كثير علينا؟