هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.
TT

تكفيريون وديمقراطيون!

يشكِّل الإسلام والمسلمون الشغل الشاغل لمفكري الغرب وقادته السياسيين حاليا. هذا ما لمسته لمس اليد أثناء تجوالي في العديد من المكتبات الفرنسية مؤخرا. فالكتب الصادرة عنا في الآونة الأخيرة لا تُحصى ولا تُعد، فيها الغث وفيها السمين. من بين المشغولين بنا وقضايانا نذكر الكاتب الفرنسي فيليب ديريبارن، وهو عالم اجتماع وكان أحد كبار التكنوقراط في عهد الرئيس الأسبق جورج بومبيدو، كما أنه باحث في المركز القومي للبحوث العلمية الفرنسية، وهو من مواليد الدار البيضاء في المغرب عام 1937، وبالتالي فالعالم العربي أو الإسلامي ليس غريبا عليه. وقد لفت الأنظار مؤخرا بكتابه الذي اتخذ العنوان التالي «الإسلام أمام الديمقراطية». نلاحظ منذ البداية أنه يضع نفسه تحت سقف المرجعية المعرفية لكبار مفكري الإسلام في فرنسا من أمثال جاك بيرك ومحمد أركون وسواهما.
يرى هذا الباحث أن هناك عراقيل معينة تحول دون انغراس الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية، وهو يتساءل: لماذا في كل مرة تخيب آمالنا بقيام الديمقراطية في بلد إسلامي ما؟ لماذا نجد أن تعددية الآراء، واحترام رأي الأقلية، والفكر الحر، هي أشياء ممنوعة تقريبا في معظم البلدان الإسلامية؟ يضاف إلى ذلك أننا لا نزال ننتظر بفارغ الصبر استهلال عهد الحرية الفكرية في أرض الإسلام في كل المجالات بما فيها المجال الديني. في رأيه لا يمكن تفسير ذلك بواسطة العوامل الاقتصادية والاجتماعية وحدها، وإن كان الفقر المدقع يلعب دوره السلبي ولا يشجع على ترسخ الديمقراطية. من ضاق عيشه ضاق فكره! وبالتالي فينبغي أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى ما هو أعمق. بمعنى آخر، فإن السبب يكمن في العقلية ذاتها. فالعالم العربي أو الإسلامي عموما مبهور باليقينات المطلقة ومتشبث بها أكثر من سواه في رأي الباحث. إنه لا يعرف معنى الشك والارتياب والبحث المتعثر والمضني عن الحقيقة، وهي أشياء لا معنى للديمقراطية من دونها. إنه أيضا مهووس بتحقيق الإجماع الكامل الذي لا ينفك يهرب من بين أصابعه. وذلك لأنه يخشى الانقسام التعددي إلى أقصى حد ممكن. ينبغي أن يكون الجميع على نفس الرأي وإلا فالطامة الكبرى! فالنصوص التراثية المرجعية تتحدث عن البراهين القطعية التي ينبغي على الجميع الخضوع لها دون نقاش، إنها تنكر الشك والمناقشة الخلافية الباحثة عن الحقيقة من خلال الحوار والصراع الفكري المفتوح والمبدع. ومعلوم أنه لا معنى للديمقراطية دون حوار واحتدام النقاش بين وجهات النظر المختلفة. ما معنى ديمقراطية بلا نقاش؟ وبالتالي فالمناقشات الحامية التي كانت تدور في الساحات العامة للمدن اليونانية والتي أدت إلى ظهور الديمقراطية لأول مرة معدومة تقريبا في البلدان الإسلامية. ومعلوم أن النقاش أقفل في العالم الإسلامي بعد إغلاق باب الاجتهاد قبل ألف سنة تقريبا. ولم يعد هناك من داع للارتياب أو الشك أو البحث القلق عن الحقيقة. لماذا تبحثون إذا كانت جميع الحقائق قد اكتشفت من قبل الأوائل ولا زائد لمستزيد؟
في مثل هذا الجو يرى الباحث الفرنسي أن مفهوم الديمقراطية يُلغى من أساسه. الديمقراطية ليست فقط صناديق اقتراع! وإلا لأصبح دعاة الفتنة مثلا أكثر ديمقراطية من جان جاك روسو! ينتج عن ذلك أنه لا معنى للديمقراطية من دون جو فكري يسمح بالنقاش الحر والاعتراض وتعددية وجهات النظر المختلفة حول ليس فقط المسائل السياسية، وإنما أيضا الدينية. فالدين حمّال أوجه.
نستنتج من كلام الباحث الفرنسي أن انغراس الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي كله مرتبط بالجواب على السؤال التالي: هل سينجح التجديد الديني هناك أم لا؟ ما دامت التفسيرات الانغلاقية المتشددة لحركات الإسلام السياسي هي المسيطرة والسائدة فلا معنى للديمقراطية في أي بلد عربي أو إسلامي. الديمقراطية ثقافة متكاملة: أي ثقافة فلسفية علمانية ذات خلفية دينية يتسع صدرها للجميع دون أي تمييز طائفي أو عنصري، حيث يتوافر ذلك نقول إن الدولة المدنية الحديثة حلت محل الدولة الثيوقراطية القديمة. من هنا الطابع السريالي العجيب لـ«الديمقراطيات العربية» التي ظهرت بعد الانتفاضات الأخيرة. تصوروا الوضع: ربيع عربي أو ثورات عارمة تنتهي بحكم الإخوان المسلمين! هذه ثورات معكوسة. حتى المفاهيم أصيبت في صميمها أو انعكست في مدلولها. كنا نعتقد أن الثورة تقذف بنا إلى الأمام فإذا بها تعود بنا إلى الخلف. ويمشي إلى الوراء الوراء.. فلا همّ لهم إلا التراجع عن منجزات عصر النهضة بشكل تدريجي ومن تحت لتحت تقريبا، لكن مصر الحضارية، مصر العظيمة، كانت لهم بالمرصاد تماما كما في عهد محمد علي الكبير، فأسقط في يدهم. ولهذا السبب حصلت الانتفاضة الثانية على حكم الإخوان في كل من مصر وتونس، والآن في ليبيا القادمة إن شاء الله.
عندما أرى الإخوان و«مثقفيهم» يتباكون على الديمقراطية أكاد أخرج عن طوري! متى كانت الديمقراطية أو الشفافية أو التناوب على الحكم من أولوياتهم؟ متى كانت فتوحات الحداثة وكنوزها تعني لهم شيئا؟ أصلا جان جاك روسو، مخترع الفكرة الديمقراطية، أمر باستبعاد أي جماعة سياسية تستخدم الدين كمطية للوصول إلى السلطة والتشبث بها. وكان يقصد بذلك حزب «الإخوان المسيحيين» الكاثوليكيين الذين ما كانوا يقلون جبروتا وإرهابا للعقول عن الإخوان المسلمين اليوم.. لماذا استبعدهم من الساحة السياسية؟ لأنهم يكفرون كل من لا ينتمي إلى مذهبهم أو طائفتهم مدعين احتكار «الدين الصحيح» أو الحقيقة الإلهية المطلقة. وبالتالي فهم تكفيريون وديمقراطيون في آن معا! وهذا من عجائب الأمور التي لا تدهش أحدا عندنا على ما يبدو. وبالتالي فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية في العالم العربي ما لم تتراجع هذه الآيديولوجيا الانغلاقية الشمولية التي اختطفت الإسلام في غفلة من الزمن وشوهت صورتنا وعقيدتنا في شتى أنحاء العالم.